أطاع يسوع والديه
ديفيد ماسيز
من بين كل المعجزات والمفاجآت المحيطة بصيرورة الله نفسه إنسانًا، قد تبدو الآية في لوقا ٢: ٥١ هي الملاحظة الاغرب لنا على الإطلاق: ” ثم نزل يسوع [من أورشليم] معهما [يوسف ومريم] وجاء إلى الناصرة وكان خاضعًا لهما” .
خضع الله للإنسان. لقد أطاع الطفل الإله والديه البشريين . ومن خلال القيام بذلك، فقد كرّم أبسط وأبقى ديناميكيات العلاقات اليومية.
ففي عصرنا الحديث هذا الذي تعلمنا فيه أن نحتقر أفكار الخضوع والطاعة، نجد ابن الله نفسه ,المستحق للعبادة والتعظيم اللامحدود, يحطم مفاهيمنا الضحلة عن القيمة والاستحقاق. إن طاعة يسوع لوالديه تتحدى مشاعر عدم الأمان فينا والتي غالبًا ما تجعلنا نكره الخضوع والطاعة.
لقد أخضع الله نفسه في جسد بشري لوالدين عاديين وعديمي الخبرة في بلدة فقيرة منعزلة تدعى الناصرة.
أطاع يسوع والديه.
من الذي يخشي الخضوع والتسليم ؟
في نهاية الاصحاح الثاني من لوقا، لم نعد نتعامل مع الطفل يسوع. فهوهنا يبلغ من العمر 12 عامًا (لوقا 2: 42)، وهو علي اعتاب الرجولة حسب مقاييس العالم القديم. إن يوسف ومريم هما المتلقيان المناسبان لخضوع يسوع، حتى عندما كان كبير كفاية للاستقلال ، بسبب دعوة الله لهما كوالدين، وليس بسبب كفاءتهما.
أن يكون يسوع في الاغلب أكثر كفاءةً وعمقا في الإيمان من والديه. ففي نهاية المطاف، فهو ليس فقط “مملوء حكمة” (لوقا 2: 40) بل أيضاً “بلا خطية” (عبرانيين 4: 15). فهو لا يجلس فقط مع معلمي الأمة ويطرح الأسئلة المناسبة، بل “جميع الذين سمعوه بهتوا من فهمه وأجوبته” (لوقا 2: 47). ومع ذلك، فإن تفوقه على والديه في الكفاءة الروحية واللاهوتية لم يجعله مسؤول ومستقل عنهما. ليس بعد. كم كان فهمه الناشئ مثيرًا للإعجاب في تنفيذ إحدى وصايا موسى العشر الواضحة: “أكرم أباك وأمك” (خروج 20: 12)؟
هنا يعلمنا يسوع، وهو في الثانية عشرة من عمره، درسًا أساسيًا لأي عصر: الخضوع التقوي، في أي سياق كان، لا ينبع من نقص الكفاءة. نحن لا نكون أبدًا أذكياء جدًا، أو ماهرين جدًا، أو ذوي خبرة كبيرة، أو روحانيين جدًا بالنسبة للخضوع الذي وهبنا إياه الله.
لا شيء من هذا يعني أن طاعة يسوع البشرية كانت تلقائية او بالفطرة فقط وكيف يمكن أن يتعلمها إلا من الوالدين الأتقياء الذين علموها وطلبوها؟ ولا يتم التسليم الإلهي إلا بجهد (من الوالدين ومن الأبناء). فالخضوع يكتسب بالتعليم . فكما “تعلم يسوع الطاعة [لأبيه السماوي] مما تألم به” (عبرانيين ٥: ٨)، كذلك تعلمها أيضًا بصبر يوسف وعنايته.
حدود التسليم والخضوع الأرضي
إن خضوعه لوالديه الارضيين له حدود بالتأكيد. حيث ان أبوه السماوي كان هو المستقبل والمتلقي الوحيد من ولاء يسوع المطلق، حتى عندما نال أبوه وأمه على الأرض احترامه الحقيقي العميق. لقد وصلنا إلى قمة التوتر. عندما وجدت مريم ابنها البالغ من العمر 12 عامًا اخيراً بعد ثلاثة أيام، قالت بغضب: “يا بني، لماذا فعلت بنا هكذا؟ هوذا أبوك وأنا كنا نطلبك معذبين” (لوقا 2: 48). فيجيب يسوع: “لماذا كنتما تطلبانني؟ ألم تعلما نه ينبغي أن أكون في ما لأبي؟» (لوقا 2: 49). لم يفهما الكلام الذي قاله لهما (لوقا 2: 50)، لكننا نفهم ما قاله الان.
وكان استسلامه وخضوعه الأعلى والأخير في السماء. إن الخضوع على الأرض، مهما كان لائقًا، لن يمنعه من طاعة أبيه، أو السكن في بيت أبيه، أو حتى الانفصال عن والديه لمدة ثلاثة أيام. وكان استسلامه الاعظم هو لله. خضوعه الثاني كان ليوسف ومريم. لأن أباه قال: «أكرم أباك وأمك».
لمحات من الله والإنسان
ومع ذلك، فإن المكان الذي نلمح فيه في القصة أكثر من غيره “الجمع الرائع بين الفضائل المتنوعة” للمسيح البالغ من العمر 12 عامًا، كما قال جوناثان إدواردز، قد يكون في لوقا 2: 46-47:
وبعد ثلاثة أيام وجداه في الهيكل جالسا في وسط المعلمين يسمعهم ويسألهم. وكل الذين سمعوه بهتوا من فهمه وأجوبته.
وهذا بفضل اجتهاد والديه وقوة الروح القدس. نرى إنسانيته الحقيقية وهو يستمع ويطرح الأسئلة. فلديه أسئلة لأنه إنسان. إنه ينموو يتعلم. إوهو متواضع بما يكفي للاستماع والاعتراف بما لا يعرفه من خلال طرح الأسئلة. وفي كل ذلك، فهو خاضع بشكل مذهل.
لكن ليس لديه أسئلة فقط. بل لديه ما يكفي من الجرأة للتحدث. وعندما فعل ذلك، «بهت جميع الذين سمعوه من فهمه وأجوبته». لقد تكلم لأن أباه تكلم. لقد كشف الله عن العديد من الحقائق الثمينة عن نفسه، بل وحفظها كتابةً “الله بعد ما كلم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة .” (عبرانيين 1: 1). لم يصمت الآب، وبالتالي الابن (بل ونحن أنفسنا، إذا استمعنا) لا يستترعنا الفهم والأجابات.
ليس كذلك بينكم
سيأتي اليوم حين يخضع للمسيح الجميع (ومتي اخضع له الكل )(كورنثوس الأولى 15: 28)، لكن أباه يريده أولاً أن يتعلم معنى أن يخضع هو نفسه. أولاً، سيتعلم “من الأسفل” جمال وفرح الخضوع الذي صممه الله. عندئذ سيعرف ويظهر “من الأعلى” القلب الحقيقي للقيادة مثل أبيه: لا يسود على الذين في عهدته (مرقس 10: 42؛ 2 كورنثوس 1: 24)، لا يخدم بل يخدم (مرقس 10: 44-45)، لا يسحق رعاياه بل يعمل معهم من أجل فرحهم (كورنثوس الثانية. 1: 24؛ عبرانيين 13: 17).
سوف يقود الإنسان الإله باعتباره شخصًا يعرف معنى التبعية . سيمارس كل سلطان في السماء وعلى الأرض كمن يعرف معنى الخضوع على الأرض لأخيه الإنسان. يتعلم أولاً أن يطيع والديه قبل أن يُدعى الآخرون إلى طاعته. هكذا أيضًا شعبه – المسيحيين او الصور المصغرة من المسيح – سيدعو، تحت سيادته، إلى “الخضوع للرؤساء والسلاطين”.(تيطس 3: 1؛ رومية 13: 1، 5؛ 1 بطرس 2: 13)، وفي حياة الكنيسة، “الخضوع للشيوخ” (1 بطرس 5: 5). وكما أن خضوع يسوع يعده للرعاية، كذلك قطيعه أيضًا. وسوف يخضع الملائكة والعالم الآتي لخرافه (1 كورنثوس 6: 3؛ عبرانيين 2: 5).
خطوة واحدة في وقت واحد
في سن الثانية عشرة، لم يكن يسوع يحمل الصليب الخاص به إلى الجلجثة، ولكن عندما أطاع والديه، سار في الطريق الذي سيقوده في النهاية إلى أعلى التل. إن تواضعه الذاتي – الذي بدأ بالمجيء عندما كان طفلاً ويمتد الآن إلى الخضوع لوالديه – سيبلغ ذروته “بأنه أطاع حتى الموت، موت الصليب” (فيلبي 2: 8).
وتقول مريم إنها كانت تبحث عنه “في ضيق عظيم” (لوقا 2: 48). قبل اثنتي عشرة سنة، في نفس المدينة، تنبأ لها سمعان أن “أنت أيضًا سيجوز في نفسك سيف” (لوقا 2: 35). أيضًا. لن تكون الوحيدة التي يجوز بها سيف بل الذي سيجوز في يسوع اقسي . وبينما ينزل ابنها معها من أورشليم، ويأتي إلى الناصرة، ويخضع لها وليوسف، فإنه يسير في الطريق المرعب والمجيد الذي يقع أمامه، كل الطاعة في كل مرة.
الي حيث تؤدي الطاعة
أن طاعة يسوع لوالديه هي جوهرة التواضع الثلاثي في لوقا ٢: ٥١: النزول من المدينة الكبيرة، إلى المدينة الصغيرة، تحت سلطة والديه. وسوف يأتي اتضاع ثلاثي آخر في الليلة التي تسبق موته: سيقوم عن العشاء، ويحزم منشفة، ويغسل أرجل تلاميذه (يوحنا 13: 3-5). وهذا وأكثر من ذلك سوف يتمم التواضع الثلاثي العظيم في تجسده: فهو يُخلي ذاته، ويصير خادمًا، ويطيع حتى الموت (فيلبي 2: 6-8).
ولكن تحت يد أبيه القوية، لا ينتهي الهبوط أبدًا في المرحلة الثالثة. لن يترك الآب ابنه عالقًا في سن الثانية عشرة، أو بمنشفة حول خصره، أو ميتًا في القبر. “سيرفعه” (فيلبي 2: 9). هذا هو ما تؤدي إليه الطاعة الإلهية دائمًا، في توقيت الله المناسب. في طاعة والديه الأرضيين، تواضع يسوع تحت يد أبيه السماوي القوية،وفي الوقت المناسب سيقيمه الله (1 بطرس 5: 6؛ يعقوب 4: 10).
إن طاعة يسوع لن تعني نهاية سعادته. بل سيكون موت كل ما كان سيمنعه من الفرح الكامل والدائم.