ما هو التوحُّد؟
هو مفهوم يُستخدَم لوصف الأشخاص الذي لديهم مزيج من ضعف التواصل الاجتماعي مع سلوكيات متكرّرة واهتمامات مقيّدة ومحدودة. وهي تبدأ في وقت مبكّر من الحياة. وهو اضطراب تطوّري أو نمائي، عصبي، شائع ووراثي، متغيِّر الخواص، له سمات معرفية، وقد يحدث مع حالات أو اضطرابات أخرى.
ولا يتعدَّى معدل الانتشار نسبة 1% تقريبًا. ولكن التقديرات أعلى في البلدان ذات الدخل المُرتفِع. ويتواجد في أمريكا بمعدل انتشار 1 لكل 59 طفل، وحوالي 5 مليون أمريكي يعانون من تلك الاضطرابات.
تاريخ اكتشاف المرض وتشخيصه
يندرج هذا الاضطراب تحت قائمة اضطرابات النمو المنتشرة في الدليل التشخيصي الأمريكي الثالث عام 1980، وتم اعتباره إعاقة منذ عام 1990 بواسطة الكونجرس الأمريكي. ويتميّز بالاختلال الثلاثي في اللغة واللعب والتفاعل الاجتماعي منذ عام 1970. ويعود تاريخ وصف وشرح المرض إلى عام 1944. وتم إعادة تسميته ليكون تحت مسمّى متلازمة أسبرجر عام 1981. وتم وضعه بشكل مستقل في الإصدار الرابع، ثم تم حذفه في الإصدار الخامس بعد 20 عام، ليتم وضع تلك الاضطرابات تحت قائمة اضطرابات طيف التوحّد. وهو أكثر في الذكور عن الإناث. ويعتبر البعض أن ليوناردو دا فينشي كان يُعاني من هذا الاضطراب.
ومن علاماته: خلل في التواصل والتفاعل الاجتماعي، خلل حسّي، سلوكيات متكرّرة، ومستويات متفاوتة من الإعاقة الذهنية أو العقلية. ويُسجّل اضطراب طيف التوحّد بحسب الدليل التشخيصي الخامس والأخير بالعلامات أو الأعراض الآتية:
1- التواصل والتفاعل الاجتماعي، وخاصة في التبادلية الاجتماعية، والتواصل غير اللفظي، وتطوير العلاقات والحفاظ عليها وفهمها.
2- سلوكيات واهتمامات متكرّرة ومقيّدة، على الأقل 2 من تلك الأعراض: سلوكيات متكررة نمطية، الإصرار على التشابه والتماثل، الاهتمامات الثابتة والمحدودة، فرط الحساسية أو قلّة الحساسية أو الاهتمام بالمدخلات الحسيّة.
3- أعراض لا بد أن تظهر مبكرًا لكن لا تظهر بشكل كلّي إلا في أوقات متأخرة، أو قد تختفي باستراتيجيات تعليمية.
4- أعراض يجب أن تُسبّب ضعفًا كبيرًا إكلينيكيًا في الوظائف أو الأداء الحالي.
5- لا يمكن تفسيره بشكل أفضل من خلال الإعاقة الذهنية أو تأخر النموّ العالمي.
ويتم التشخيص على أساس الأعراض والسلوكيات التي تم ذِكرها بواسطة مختصّين متدرّبين. وقد يبدأ الأهل في رؤية الأعراض وزيارة طبيب مختصّ عندما يكون عمر الطفل في الثانية وحتى الخامسة من عمره. وقد يصعُب تشخيص واكتشاف التوحُّد حتى سن الدراسة لمن لديهم الأعراض الخفيفة. ويتم معرفة التشخيص السليم بعد معرفة تاريخ نمو الطفل بالتفصيل من الأهل، مع ملاحظة الطفل في تفاعله مع الأهل والآخرين.
الجدير بالذكر أنه تختلف متلازمة أسبرجر عن طيف التوحّد في الأمور الآتية: غياب المقياس التشخيصي لعامل التواصل، غياب شرط ظهور الأعراض قبل الثالثة من العمر، إضافة معيار يحدّد عدم وجود تأخّر لغوي، إضافة معيار يحدّد غياب نقص في التطوّر المعرفي.
عوامل وأسباب حدوث التوحّد
بالرغم من ملاحظة اختلافات تشريحية ووظيفية في دراسات ما بعد الوفاة والتصوير العصبي والدراسات الفسيولوجية الكهربية للتوحُّد، إلا أنه لا يُعد من الأمراض الدماغية الكليّة. ولوحِظ بالفعل تغيّرات واضحة مسجّلة في أشعة الرنين ورسم المخ لدى كثيرين منهم.
وقد تكون عوامل الخطورة بيئية مثل تقدّم سنّ الوالدين، ورضح أو صدمة الولادة وخاصة نقص الأكسجين، والسمنة عند الأمهات، وقصر المسافة بين الحمل والحمل التالي، وسكّري الحمل، واستخدام عقار فالبروات أثناء الحمل، والتطعيمات، والولادة المبكّرة، ونسبة تعاطي حمض الفوليك، وتلوّث الهواء، وطريقة الولادة وخاصة القيصرية، مع أبعاد وعوامل وطفرات جينية ووراثية.
تُجرى دراسات حالية حول علاقة ارتفاع نسبة الأكسجين في الجنين والتوحّد، ولم يتم التأكّد منها بعد. وبحسب الدراسات الحالية لا يوجد بعد دليل كافي حول وجود جينات انتقائية خاصة بالتوحُّد.
الأعراض المصاحبة وأهم التدخلات العلاجية
قد يُصاحب هذا الاضطراب اضطرابات نفسية وعصبية مثل فرط الحركة ونقص الانتباه والقلق والاكتئاب والصرع. ومن التحديات التي تواجه الأهل في الأطفال التي تعاني من التوحّد: زيادة الوزن، والإمساك، واضطرابات النوم، ومشاكل التغذية، واضطرابات الجهاز الهضمي، واضطرابات المزاج، واضطرابات سلوكية. لذا يلزم الأمر متابعة طبيَّة ونفسية دقيقة من الأهل والمختصّين لهذه الأعراض المصاحبة لخطورتها وتأثيرها على صحة الطفل والأسرة والمجتمع.
تُعتبر الأسرة مصدر الدعم لمن لديهم التوحُّد طوال فترة حياتهم. كما تساعد التدخلات الاجتماعية والنفسية الأطفال في تحسين بعض السلوكيات كالاهتمام المشترك واللغة والمشاركة الاجتماعية، والتي تؤثّر بدورها فتُحدِث مزيدًا من التطوُّر، ويمكن أن تقلّل من شدّة الأعراض.
وتتنوّع التدخلات العلاجية لهذا الاضطراب، منها تدخلات بواسطة الأهل والأسرة، وتدخلات عن طريق المعالجين، وتدخلات مدرسية أو تعليمية، وأساليب لتشجيع الاستقلالية في البلوغ. ولا تنفع العلاجات الدوائية والعقاقير إلا لمعالجة بعض الأعراض المصاحبة للتوحُّد مثل التهيُّج.
ولا بد من التدخّل المبكّر خاصة للعمل على زيادة وعي وإدراك الأهل، والاهتمام بزيادة إتاحة الفرد للتعلُّم. ويكون التدخّل المبكّر تطوّري وسلوكي لمرحلة قبل الدراسة. والجدير بالذكر أن هذه الخدمات الخاصة تتوفّر في الدول المتقدمة فقط!
لا بد من التعامل بحرص مع الأدوية التي تساعد في تخفيف بعض أعراض التوحّد، تحت إشراف طبي، لوجود أعراض جانبية لها مثل: زيادة الوزن والنعاس واضطرابات في الحركة.
لذا من أهم التدخلات الطبية والنفسية: تقليل الأعراض والعجز الأساسي، وتحقيق أقصى قدر من الاستقلال الوظيفي بتسهيل التعلّم واكتساب مهارات التكيُّف، والتخلّص من السلوكيات الصعبة أو المُريبة التي تتداخل مع المهارات الوظيفية.
توصّل العلماء إلى أهمية الروحانية، وعلاج مشاكل النطق والتخاطب، والعلاج المهني، والعلاج الطبيعي في مواجهة اضطراب التوحُّد.
نستكمِل في المقال التالي نقاط هامة حول رسالتنا لكل بيت يعاني من تلك القضية، وكيفية التعامل مع هؤلاء الأطفال في معاناتهم.
د. صموئيل فكري
طبيب نفسي ومُشير كتابي