بعد دراسة النظرة العلمية والطبية والنفسية حول التوحُّد، نأتي لأهم وآخر جزء في رحلتنا البحثية حول التوحُّد، وهو كيفية مساعدة أهل المُصابين بالتوحُّد، وكيفية مساعدة المُصابين بالتوحُّد، والرسالة الروحية الكتابية لنا وسط تلك المُعاناة.
نصائح لأهل المُصابين
لا بد أولًا من استشارة الأطباء والمختصّين في أي شيء طبي وجسدي، وتقبُّل التشخيص وتأثيره على الشخص والأسرة، والإدارة الجيّدة للمصروفات وخاصة مصروفات التدخلات العلاجية، والبحث عن أصدقاء واعين وداعمين (مجموعات دعم ومساندة مع أهالي المُصابين)، والعمل على تنظيم الوقت وكل يوم بشكل روتيني، ومشاركة المُصاب بالتوحُّد، والصلاة معه، وتعلُّم طلب أي شيء منه بهدوء. ولا تنسى أن تتذكّر دائمًا هويّتك وهويّته الحقيقية الأصيلة في المسيح بالخلق والفداء.
إرشادات عامة وهامة
يؤثّر الكمّ الهائل من المعلومات الحسيّة في المدن الكبيرة المُزعِجة على المُصابين بالتوحُّد، ويؤدّي ذلك إلى حدوث حِمل زائِد في الدماغ. كما يحدث هذا أيضًا في المدارس الحديثة المُفعَمة بالضجيج. وهذا يُفقِدهم الكثير من الرؤية الصحيحة والسليمة، مع فقدان لغة الجسد والاتصال بالعين. ولذلك يُفضَّل الالتقاء بهم وتواجدهم في مكان هادئ وضوء خافِت. كما يُفضَّل التعامل معهم في روتين ونظام ومواقف وأحداث معروفة ومألوفة لهم، للوقاية من الإصابة بحمل زائِد أيضًا في الدماغ لهم. كما يمكن استخدام سماعات إلغاء الضوضاء أو سدادات الأذن للوقاية وتقليل مستويات الضوضاء. ويُفضَّل استخدام نظارات الشمس لتقليل سطوع الضوء. ويُنصَح باتخاذ استراحات قصيرة دورية في غرفة هادئة إذا أمكن أثناء العمل والنشاط اليومي.
ولا بد من التعامل مع اضطراباتهم النفسية التي سبق ذِكرها في المقال السابق، ومحاولات الانتحار لديهم. فهم يحتاجون لصداقات آمنة وبيئة داعِمة.
يجب مراعاة تلك الأمور الهامة: الإضاءة، الضوضاء، التعليمات والنظام الروتيني، تبسيط الأمور بدون أشياء مجرّدة ونظرية، تفادي ما هو مُفاجئ بدون مُقدِّمات، أوقات للاستراحة، صعوبة الرؤية والتفاعُل والاستماع خاصة في الازدحام، اختلاف لغة الجسد والتواصل بالعين، الوضوح والدقّة والالتزام، الدعم من شخصيات هادئة وحساسة.
لا بد ألَّا نستخِدم مع هؤلاء المُصابين بالتوحُّد تصنيف الأداء في التعامل معهم، مثل التوحُّد عالي الأداء ومنخفِض الأداء. فكل شخص فينا فرد وله نقاط القوة والضعف. ويجب أيضًا علينا ألا نقبل فكرة الاستقلالية الكاملة في التناول العلاجي معهم لأننا كائنات مخلوقة ومُصمّمة لتعتمد على الآخرين وعلى الله.
التغذية
تؤكّد بعض الدراسات والأبحاث أهمية التغذية في مواجهة تلك القضية، مثل الاستغناء عن الذرة ومنتجات الألبان والغلوتين وبعض الخضروات والبروتينات، وإضافة المُكمّلات الغذائية المُفيدة.
كيفية التواصل معهم
نحتاج للوقت والملاحظة الجيدة لمعرفة ما هي الأشياء المُساعِدة لهم أكثر للتعبير عن أنفسهم. ويجب علينا الحذر لما نقوله في حضورهم وتواجدهم، واستخدام إشارات واضِحة مُتفَق عليها للتعبير عن أي شيء لهُم، والانتظار والتكرار والتشجيع بلطف.
يُفضِّل المُصابين بالتوحُّد التواصل مع المُصابين بالتوحُّد مثلهم، وغالبًا في مجموعات. ويُفضَّل التواصل معهم في دردشة لوقت قصير، والجلوس بجانبهم وليس أمامهم مع تجنُّب الاتصال بالعين. ويُفضِّل البعض منهم طريقة تواصل أفضل من الكلمات والحديث، قد يكون ذلك بوسائل الاتصالات التكنولوجية المساعِدة مثل الهواتف المحمولة والأجهزة اللوحية.
يجب ألَّا نقبل العزلة لنا ولأطفالنا في تلك المُعاناة، وألَّا نرفض الدعم الجيّد لنا بمختلف أشكاله. وعلى الأزواج أن يتخذوا وقتًا قصيرًا خاصًا بهم معًا ليدعّم كل واحد منهم الآخر في تلك الظروف.
نظرة مختلِفة وقدرات خاصة
قد يُنظَر لهذا الاضطراب بأنه اختلاف في تصميم التوصيلات الدماغية، وأنه جزء من التنوُّع البشري. وهذا يجعلهم في تميُّز واختلاف في التواصل الاجتماعي عن الآخرين. ويشمل هذا استخدام آخر للاتصال بالعين وحركات الجسم المختلفة واستخدام تعابير الوجه. وهذا يتوازى مع مجتمع الصُمّ المختلِف. فالمأساة الحقيقية ليست في اضطراب التوحُّد، بل في تعامل المجتمع معه لسنين طويلة. فالكثير من المُصابين به يعيشون في خوف من التنمُّر والعنف وأمور أسوأ. ولا ننسى أن هؤلاء يمتلكون أدمغة مُصمَّمة لأخذ قدر كبير من التفاصيل والمعلومات، ولهذا لم يكن التوحُّد مشكلة لقرون عديدة.
أثبتت الأبحاث والدراسات وجود قدرات غير عادية نافعة لدى المُصابين بالتوحُّد، والقدرة على التعامل مع الآخرين وأمانتهم، وشغفهم وتكريسهم للعمل المختصِّين به، وميلهم للعطاء أكثر للجمعيات الخيرية واشتراكهم في العمل الاجتماعي. ويجب علينا ألا نفترض بالتعميم عن مستويات الذكاء والقدرات لديهم، لتنوّعها بنسب متفاوتة. وهم يحتاجون لعلاقات ممتدة تتسم بالحب، وفيهم من هم سعداء في زواجهم، ولديهم أطفال.
رسالة رجاء وتعزية وسط الألم والمعاناة
نحن نعلم أن الله له مقاصِد وأهداف لحياتنا أكبر من أن تكون لمجرَّد سعادتنا. فعلينا أولًا أن نثِق به. فهو لديه مقاصِد حتى من خلال المعاناة، ولها معنى وقيمة لنا. وصمَّمها الله للخير في حياتنا الشخصية وحياة الآخرين من حولنا ومن لديهم نفس المعاناة أيضًا.
ولا ننسى أن أفكار وخطط الله للسلام، لا للشر (إرميا 29: 11). وأن كل الأشياء يعملها الله معًا للخير للذين يحبونه والمدعوِّين حسب قصده (رومية 8: 28-30). والخير الأسمى هو أن نكون شبه المسيح وعلى صورته، لإعدادنا للمجد الأبدي.
كما نعلم أيضًا أن الرب قال عن نفسه أنه هو من صنع، في سلطانه، الأخرس والأصم والأعمى (الخروج 4: 11)، وأنه خلق كل الأشياء لتظهر أعمال الله فيها لمجد اسمه (يوحنا 9: 1-3).
نحن نعيش في عالم ساقِط، ونُعاني من ظروف صعبة شخصية مؤلِمة. ولكن يوجد رجاء وسط المعاناة والظلام والانكسار مهما كانت الظروف. فلا شيء يستحيل على الرب.
لا بد أن أهل كل مُصاب يدركون بأن الرب أعطاهم الطفل المُصاب ليكونوا أفضل والدين له، بالرغم من كل عيوبهم وضعفاتهم. وأن الرب يستخدِم ضعفاتهم ليُظهِر لهم أمرين على الأقل: أنه يستطيع أن يستخدِم أي ظرف للخير، وأنه يستخدِم المعاناة لمجده.
كما أن الإنسان لا يُقيَّم ويُعرف من خلال قدراته، بل بعلاقاته، وبالأخص علاقته بالله. فيجب علينا ألَّا نفكّر فيهم، ونصنِّفهم، كمُصابين بالتوحُّد، بل كأُناس مخلوقين على صورة الله وأبناء لله في المسيح بالإيمان. فنحبهم ونتعلَّق بهم ونفرح بهم كما هم. ونقبل ضعفاتهم وعجزهم ونساعدهم للتغلُّب على التحديات التي تواجههم.
يُعلِّمنا الكتاب المقدّس أن الأشياء المشوّهة أو الخاطئة التي تحدُث في العالم، والتي تشمَل العجز والمرض والإعاقة، هي جزء من العيش في عالَم ساقِط. فيجب ألا نهرب من العجز أو ندَّعي أنها مجرّد “اختلافات”، لأننا نعيش في عالَم خاضع الآن لدينونة الله، وقضاءه العام تجاه الخطيّة.
ويخبرنا الكتاب لتعزّيتنا وسط هذه المعاناة أن الرب يسوع يحبنا جدًا حتى أنه مات لأجل خطايانا، بالرغم من عدم استحقاقنا. وعندما نتذكَّر أبعاد تلك المحبة، هذا يُحفِّزنا أن نحب ونحتمل ونُضحي أحيانًا براحتنا لأجل مساعدة أبنائنا المُصابين بالتوحُّد ونخدم أهل المُصابين ونشجعهم وندعمهم.
كما أن الكتاب يُعلِّمنا ويُشجِّعنا بأن المسيح قد قام، وأعطانا رجاء الخليقة الجديدة التي لن يكون فيها موت أو فساد أو ألم أو دموع. ونحن نتطلَّع ونترقَّب ونتوقَّع فداء أجسادنا التي لن تخضع للمرض أو العجز. فلا نفشل عندما نتألَّم أو نرى من نحبهم يتألمون، لأن هذا يجعلنا مشتاقين ومنتظرين أكثر الخليقة الجديدة ومجيء الرب. فالألم الذي بحسب مشيئة الله يجعلنا مشابهين أكثر صورة المسيح، ويرفع أنظارنا وأشواقنا عن الأرضيات والعالم، فننتظر مجيء المسيح والخليقة الجديدة.
د. صموئيل فكري
طبيب نفسي ومُشير كتابي