مقدمة
يُعتبَر الاكتئاب من أشهر الاضطرابات والخبرات الإنسانية. وهناك ما يصل إلى 25% من التعداد العالمي مُصابين بالاكتئاب. وقد يكون السبب فيه جسدي أو اجتماعي أو روحي. وقد يكون من اقتران الظروف الخارجية المذكورة أعلاه مع التفسيرات الداخلية واستجابتنا لها. تنبُع تلك الاستجابات الداخلية من رغباتنا ومعتقداتنا. ويظل التفسير الحقيقي للاكتئاب هو العيش في هذا العالم الساقِط وتأثيرات الخطيَّة.
المؤمن والاكتئاب
لا يوجَد للمؤمن إعفاء أو استثناء من الألم والمعاناة والضيقات والشدائِد. وهذا ما تذكره كلمة الله لنا عبر صفحاتها عن الكثيرين الذين اختبروا الكآبة أمثال حنَّة أم صموئيل وداود وإيليا وإرميا وأيوب وموسى ويونان وبولس، ومنهم من فقد إرادته في الحياة في بعض الأحيان، وحتى الرب يسوع نفسه قيل عنه نبويًا “رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ الْحَزَنِ” (إشعياء 53: 3). ولسنا بحاجة إلى أي دليل تشخيصي دنيوي لنعرِف أن قلب الإنسان مُعرَّض لفترات طويلة من الحُزن اليائِس. كما أن تخفيف الأعراض من خلال العلاج النفسي أو استخدام بعض العقاقير لا يعني بالضرورة أنه قد تم علاج المشكلات الحقيقية. ويعجز العلاج النفسي السلوكي المعرفي، الذي يرتكز على المعتقدات الأساسية، عن اكتشاف اضطرابات القلب أو الروح. وأي تغيير لا يتطلَّب عمل المسيح وقوَّة الروح القدس، ولا يهدِف للتشبُّه بالمسيح، لا يُعتبَر تغييرًا مسيحيًا كتابيًا حقيقيًا. ولا يوجَد تغيير حقيقي بدون الرسالة المسيحية (الإنجيل). لذا فأفضل ما نقدِّمه لكل مُكتئِب ليس في علاج سلوكي معرفي، ولو مسيحي، بل في المسيح ذاته، وكل ما يُقدِّمه لنا الآن وقريبًا!
مراحل الوصول إلى الاكتئاب
وتُعَد اللامبالاة هي السمة المميزة للمكتئبين. فلا يبالي المُكتئب لذاته ولطعامه وشرابه وللظروف المحيطة وللمسؤوليات وللعلاقات. وقد يصِل في شدَّته إلى فقدان الإرادة والشغَف في العيش وطلب الموت والانتحار. والمكتئِب يشعر بأنه وحده، ويتخلَّى عن كل أمل ورجاء في المساعدة. ويبدأ الاكتئاب بالإحباط عند عدم الحصول على ما يريده المرء أو يظن بأنه يستحقه، وقد يصِل بعد ذلك إلى مرحلة عدم القناعة والرضا والشبع، ثم بعد ذلك يصل إلى مرحلة اليأس وهي الإقرار بعد وجود حل أو مخرَج. وفي النهاية قد يصل الشخص إلى مرحلة الدمار وهي الشعور بالاكتئاب عاطفيًا وروحيًا.
الاكتئاب والانشغال بالظروف والذات
لنا في المزمور 77 دروس عملية وروحية هامة وسط الاكتئاب وكيفية مواجهته. فيُعطينا تحليلًا هامًا بأن الانشغال بالذات والظروف المُحيطة الحاضِرة سيؤدِّي بنا إلى الشك واليأس، كما يوجِّهنا وينصحنا بأن نعترِف للرب بيأسنا وشكوكنا من الظروف وعن المستقبل بصراخ طلبًا للمعونة، كما يوجِّهنا ويشجِّعنا على الانشغال بالله وبأعماله في الماضي، وهذا سيؤدِّي بنا إلى الرجاء والأمل والتسبيح. وقد نخرُج بدرس عملي من هذا المزمور الرائع بأن نكتب الشكوك والاهتمامات والمخاوف، ونصلِّي لأجل هذه القائمة، ثم نبدأ في كتابة أعمال الله معنا وأعمال الله في كلمته، ونقضي وقتًا في التسبيح.
مساعدة المكتئبين
ولكي نُساعِد المُكتئبين علينا بأن ندرك أن المشاركة في آلامهم ومعاناتهم هو مفهوم كتابي مسيحي، ويُعَد من أعمال الرحمة والتعاطُف. ولا ننسى أن التعاطف هو الشعور بالحزن والأسى تجاه بلايا الآخرين. وأما الرحمة أو الشفقة فهي التحرُّك للتجاوب بشكل عملي وبلطف لتخفيف تلك الآلام. والرب يسوع هو مثالنا في كل هذه الأمور (العبرانيين 4: 15؛ 2: 18؛ أفسس 2: 4). ويشجعنا العهد الجديد على خدمة التحنُّن، فنبكي مع الباكين (رومية 12: 15)، ونلبَس أحشاء رأفات ولطفًا (كولوسي 3: 12)، ونتمثَّل بيسوع الذي كان يتحنَّن ويُشفق على الجموع (متى 9: 36؛ 15: 32). كما يجب أن نحترس من المواجَدة المُدمِّرة، وهي الانغماس التام في ألم وحزن المتألمين. فالتعاطف أو المواجدة ليست المشكلة، ولكن تكمن المشكلة في الاعتقاد بأن أفضل تشبُّه بالمسيح هو الانغماس بالألم والحزن حتى الابتلاع به (رومية 12: 12). كما يجب على الرعاة خدمة النفوس بشكل جيِّد من خلال الوعظ بنظرة كتابية صادقة وأمينة عن التجربة الإنسانية لكي تُزال الوصمة والخزي المُصاحِب للاكتئاب في الكثير من الأحيان. كما يجب على الرعاة وأعضاء الكنائس على حدٍ سواء تعزيز النظرة الكتابية للانتماء والشركة لمنع الأطراف الروحية من تفاقُم أحزانها من خلال العُزلة التي يلجأ إليها المكتئبين. فعلينا أن نشترك مع الروح القدس في عمله في حياتهم وآلامهم بحضورنا بهدوء وصمت وثبات ولو لتناول وجبة أو في نزهة أو رحلة بسيطة للتسوُّق، فلا يجب أن نتجنَّب ذلك حتى لو كنَّا لا نعرِف ماذا نقول أو نخشى أن نجعل الأمور أسوأ (1 كورنثوس 12: 26). ولا يجب أن نغفل عن نسبة الانتحار المرتفعة بالعالم أجمع اليوم، والتي أغلبها من جرَّاء الانتحار. ولذلك لا بد أن نلاحظ إذا انسحَب أحد الأحباء والأصدقاء من الأشياء التي كان يستمتع بها من قبل، سواء كانت علاقات أو هوايات أو العمل. فعلينا بالتحرُّك تجاه هؤلاء الأشخاص وطرح أسئلة عليهم لمساعدتهم ومشاركتهم.
نصائح للمكتئبين
تأمَّل في حياة وآلام المسيح كل يوم ولا سيما في إشعياء 53 ومرقس 14. اِستخدم المزامير لمساعدتك لتتحدَّث إلى الله عمَّا في قلبك (المزامير 86، 88). كن منتبهًا للحرب الروحية. وتذكَّر أن موت المسيح على الصليب يُثبِت ويبرهِن على محبته لك. لست وحدك في الآلام والضيقات والمعاناة، فالكثيرين مرُّوا بهذه التجارب والأحزان (راجع العبرانيين 11، 12). وتذكَّر غرضك في الحياة، وتعلَّم عن الصبر والاحتمال. واختبر نفسك، هل هناك مشكلات روحية معيَّنة أدت لإصابتك بالاكتئاب؟ هل هناك شخص بجانب الله هو مركز حياتك وفقدته وتشعر بعده بالوحدة وانعدام الهدف؟ أو هل جعلت أحدهم السبب الذي لأجله تعيش والآن بدونه تشعر بفقدان الرجاء؟ أو هل تشعر بعدم وجود قيمة وكرامة في أعْيُن وآراء من هم حولك؟ أو هل فعلت أمرًا قبيحًا وتدير القضية أو المشكلة بعيدًا عن صليب المسيح؟ أو هل تشعر بالغضب ولا تمارس الغفران؟ خذ وقتًا ولو للحظات لمراجعة نفسك، ووقتًا لقراءة مقاطع كتابية قصيرة، واطلب المساعدة، ولا تتأخَّر في الاهتمام بمن هم حولك. قد يساعد العلاج الدوائي في إدارة الأعراض الجسدية فقط، ولكن من يقوم بحل المشكلات الروحية؟
لا يرشدك الاكتئاب للحقيقة الكاملة. فهو يخبرك بأنك وحيدًا، ولا أحد يحبَّك، وأن الله لا يهتم بك، ولن تشعر أبدًا بأي اختلاف أو تغيير، ولا يمكنك الاستمرار ليوم آخر. ولا يوجد سبب للبقاء حتى في زوجتك وأطفالك وأنت في أسوأ حالاتك. وقد تصل لنتيجة بأن الجميع سيكونون أفضل بدونك، لكن هذه كذبة، فلن يكونوا أفضل حالًا بدونك. ليس الموت دعوتك لتقوم بالانتحار. الله وحده من يُعطي ويأخذ في سلطانه. وطالما أعطاك الحياة، فهو لديه أهداف لك. فقد يكون هدفك أن تحب شخصًا آخر. اِبدأ بهذا الغرض، واحصل على المساعدة من صديق أو قِس. الله معك ويدعوك للوصول إلى أشخاص يستمعون إليك ويهتمون بك ويصلون من أجلك. لا يمكن للاكتئاب أن يسلب منك الأمل والرجاء لأن الرجاء موجود في شخص، وهذا الشخص هو يسوع، وهو حيٌّ ومعك!
وقد تكون رحلتنا في البريَّة مصمَّمة جزئيًا للكشف عمَّا في قلوبنا، ولنتعلَّم أن نثق بالله في الرحب والضيق. ولا ننسى أن العواطِف والمشاعِر صاخِبة، ولكنها لا تروي قصتنا بأكملها. لنتحوَّل إلى الله ونستمع لصوته بدلًا من أن نستمع لصوت الاكتئاب. ولنطلب أصدقاء يخبروننا بالأخبار السارة عن يسوع الذي عاش ومات وقام مرَّة أخرى.
الرب يسوع معنا!
يقدَّم لنا الرب يسوع خمسة أمور وسط الاكتئاب: الرحمة والفهم الكامِل للمعاناة (مرقس 14: 32-34)، والحضور المعزِّي في الظلام (مزمور 23: 4)، والفداء من لعنة الناموس ونوال بركة إبراهيم (غلاطية 3: 13-14)، والشفاعة المستمرة (العبرانيين 7: 25)، والوعد بالحرية المُطلَقة والنهائية من كل ألم وحزن، وبالفرح والسرور الأبدي (الرؤيا 21: 3-6).
د. صموئيل فكري
طبيب نفسي ومشير كتابي